فصل: من لطائف وفوائد المفسرين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}
وساعة تسمع كلمة {فئة} فاعلم أن معناها جماعة اختصت بخوض المعارك في ميدان القتال، فليست مطلق جماعة، بل هي جماعة مترابطة من المقاتلين؛ لأن كل مقاتل يفيء لغيره من زملائه، أي جماعة أخرى غير مترابطة تستطيع تفريقهم بصرخة أو عصا، أما المقاتلون فأنت لا تصرفهم إلا بقوة أكبر منهم، ويحاول كل منهم أن يحمي زميله، إذن فكل منهم يفيء إلى الآخرين.
والحق تبارك يقول: {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله} [البقرة: 249].
ويقول الحق سبحانه وتعالى: {قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ} [آل عمران: 13].
إذن فالفئة هي جماعة في الحرب.
وقوله تعالى: {لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال: 45].
يُقصد به ساعة حدوث المعركة ونشوب القتال؛ لأن الحرب تقتضي أولًا إعدادًا، ثم تخطيطًا يتم قبل الالتحام ثم ذهابًا إلى مكان المعركة. وقوله تعالى: {إِذَا لَقِيتُمْ} أي أن المسألة قد وصلت إلى الواجهة مع الكفار ويقول الحق تبارك وتعالى: {فاثبتوا} والثبات هنا معناه المواجهة الشجاعة، لأن الإنسان إذا ما كان ثابتًا في القتال، فالعدو يخشاه ويهابه، وإن لم يكن كذلك فسوف يضطر إلى النكوص، وهذا ما يُجريء الكفار عليكم.
وما دمتم قد جئتم إلى القتال، فلابد أن يشهد الأعداء شجاعتكم؛ لأنكم إن فررتم فهذه شهادة ضعف ضدكم.
ولذلك لابد من التدريب على الثبات والقتال، وهذا هو الإعداد المسبق للحرب؛ بالتدريب القوي والتخطيط الدقيق، وألا يتولى أحد منكم ويفر لحظة الزحف لأن هذا العمل هو من أكبر الكبائر، والحق سبحانه وتعالى يقول: {وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفًا لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله} [الأنفال: 16].
{يُوَلِّهِمْ} أي يعطيهم، و{دُبُرَهُ} أي ظهره، وهذا تقبيح لعملية الفرار، لأن الدبر محل الصيانة ومحل المحافظة. ونعلم أن هناك من قال للإمام عليّ- كرم الله وجهه-: إن درعك له صدار وليس له ظهر، أي أن الدرع يحمي صدرك إنما وراءك لا يوجد جزء من الدرع ليحمي ظهرك. فقال: (لا كنت إن مكنت خَصمي من ظهري)، أي أنه- كرّم الله وجهه- يفضل الاستشهاد على أن يُمَكِّن خصمه من ظهره، فلو أنَّ درعه من الأمام ومن الخلف، ففي هذه الحالة يكون في نيته أن يمَكِّن خصمه من ظهره، ولذلك جعل الدرع يحمي الصدر فقط، وهو على يقين أنه لن يدير ظهره لعدوه، ويسمون تلك الحالة الأخرى ظاهرة ضبط النفس أي أنها طريق لمنع الشيء أن يحدث ولو في ساعة الشدة؛ لأن المقاتل حين يدخل المعركة، وهو يحمي صدره فقط فهو لا يتولى ليفر؛ لأنه يعلم أنه لو تولى فسيكشف لهم ظهره وسيتمكن منه عدوه وسوف يُقتل.
والحق سبحانه وتعالى حين يقول: {فاثبتوا} لا يطلب هذا الثبات على إطلاقه، ولكن يريد من المؤمنين الثبات والقوة في القتال. أما غذا كانت الفئة التي يواجهها المؤمنون كبيرة العدد أو كثيرة العتاد فذلك يتطلب الدراسة والاستعداد، وهنا طلب الحق الثبات ليعلم المؤمنون يقينًا؛ أنهم لا يواجهون عدوهم بقوتهم ولكن بقوة الله الذي يجاهدون من أجله. ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {واذكروا الله كَثِيرًا}، أي تذكروا وأنتم تقاتلون أن الله معكم بعونه ونصره، فإن لم تستطع أسبابكم أن تأتي بالنصر، فإن خالق الأسباب يستطيع بقدرته أن يأتي بتالنصر.
وكلنا نعلم أن الحق تبارك وتعالى قد وضع في كونه الأسباب، فإذا استنفدنا أسبابنا، اتجهنا إلى خالق الأسباب، ولذلك نجد أن من لا يؤمن بالله إذا خانته الأسباب ينتحر أو ينهار تمامًا أو يصاب بالجنون، ولكن المؤمن يقول: إذا خانتني الأسباب فمعي رب الأسباب وخالقها، ويأوي إلى ركن شديد.
إن الطفل الصغير إذا اعتدى عليه أحد يقول: إن لي أبًا أو أخًا سيرد عني الإيذاء؛ لأن الأسباب لا تعطيه قدرة الرد، فكيف لمن له رب قدرته فوق قدرة الكون كله، وقوته موجودة دائمًا. ولذلك نجد قوم موسى حين وصلوا إلى شاطيء البحر ووجدوا أمامهم الماء، ونظروا خلفهم ورأوا جنود فرعون مقبلين من بعيد، قالوا: {إِنَّا لَمُدْرَكُونَ}
وكانوا منطقيين فيما قالوه، فالبحر أمامهم والعدو وراءهم. وليس لهم من طريق للنجاة باستخدام الأسباب العادية في هذا الكون، ولكن موسى عليه السلام بقوة إيمانه بالله تعالى يقول ما جاء على لسانه في القرآن الكريم: {قَالَ كَلاَّ} [الشعراء: 62].
أي إن فرعون وجنوده لن يدركونا، ولم يفهم قوم موسى؛ لأن البحر أمامهم وجنود فرعون وراءهم، وأضاف سيدنا موسى عليه السلام بملء فيه قوله: {إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ} [الشعراء: 62].
أي أنه رفع الأمر من الأسباب إلى المسبب، وإذا بالله يأمره أن يضرب بعصاه البحر؛ فينفلق؛ وتظهر الأرض اليابسة. ويعبر بنو إسرائيل البحر، وعندما وصل موسى وقومه إلى شاطيء البحر بعد أن عبروا، أراد موسى أن يضرب البحر مرة أخرى حتى يعود الماء إلى الاستطراق. فلا يتمكن جنود فرعون من اللحاق بهم، ولكن الله سبحانه وتعالى قال لموسى: {واترك البحر رَهْوًا إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} [الدخان: 24].
أي لا تتعجل وتضرب البحر ليعود مرة أخرى لاستطراق الماء بل اتركه على حاله ساكنًا فما أنجى الله به بني إسرائيل سيغرق به آل فرعون، وبذلك أنجي وأهلك بالشيء الواحد، وهذا لا يقدر عليه إلا هو سبحانه وتعالى.
وهنا يقول الحق تبارك وتعالى: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ} [الأنفال: 45].
وسبحانه وتعالى هو خالق النفس البشرية وهو العليم بها حين تكون أمام قوة لم تحسب حسابها وكيف تعاني النفس من كرب عظيم، خصوصًا إذا كان ذلك في ميدان القتال، ولذلك طلب من المؤمنين لأن يتذكروا دائمًا أنهم ليسوا وحدهم في المعركة وأنه سبحانه وتعالى معهم، فليذكروا هذا كثيرًا ليوالي نصرهم على عدوهم؛ لأنهم إذا ما داوموا على ذكر الله تعالى فسيقوي هذا الذكر إيمانهم، ويجعل في قلوبهم الشجاعة اللازمة لتحقيق النصر.
وذِكْرُ الحق كلمة {كَثِيرًا} هنا يعني أن الإنسان قد يذكر الله عند اليأس فقط، فإن جاءت الحياة بعد ذلك بالرخاء فقد ينسى ذكر الله؛ لذلك يؤكد سبحانه وتعالى هنا أن يكون ذكر الله كثيرًا، ليوالي الله نصر المؤمن على عدوه. ومثال ذلك: أننا نجده سبحانه وتعالى حينما يستحضر الخلق المؤمنين للصلاة في يوم الجمعة يقول: {يا أيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وَذَرُواْ البيع ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة: 9-10].
يطلب الحق سبحانه وتعالى ذلك من المؤمنين وهو العليم بأنهم يداومون الولاء له سبحانه كل يوم خمس مرات.
ثم بعد صلاة الجمعة يطالبهم بالانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله تعالى، وينبهنا أن نداوم على ذكره فكأنه يقول؛ إياكم أن تلهيكم أعمالكم ومصالحكم الدنيوية عن ذكر الله، أو تعتقدوا أن ذكر الله في المسجد أو وقت الصلاة فقط، بل داوموا على ذكر الله في كل أحداث الحياة. فإن فعلتم ذلك وذكرتم الله كثيرًا فستكونون من المفلحين.
وذكر الله كثيرًا معناه أنك تشعر في كل لحظة أن الله سبحانه وتعالى معك فتخشاه وتحمده وتستعين به. وهكذا تكون الصلة دائمة بينك وبين الله عز وجل في كل وقت.
مثال ذلك ما حدث في عام 1973 في معركة العاشر من رمضان، كان ذكر الله يملأ القلوب واستمد الجند من قولهم: الله أكبر طاقة هائلة واجهوا بها العدو، واقتحموا خط بارليف.
وأعانهم الحق بمدد الإيمان من عنده، وأوجد في نفس كل منهم طاقة هائلة تحقق بها النصر؛ وذلك بإجادة التدريب ومداومة الذكر لله تعالى. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}
أخرج عبد الرزاق في المصنف وابن أبي شيبة وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا تتمنوا لقاء العدوّ وأسالوا الله العافية، فإن لقيتموهم فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا، فإذا جلبوا وصيحوا فعليكم بالصمت».
وأخرج ابن أبي حاتم عن كعب الأحبار رضي الله عنه قال: ما من شيء أحب إلى الله من قراءة القرآن والذكر، ولولا ذلك ما أمر الله الناس بالصلاة والقتال: ألا ترون أنه قد أمر الناس بالذكر عند القتال فقال: {يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون}.
وأخرج ابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن قتادة رضي الله عنه في الآية قال: افترض الله ذكره عند أشغل ما تكونون، عند الضراب بالسيوف.
وأخرج أبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر رضي الله عنه قال: أشد الأعمال ثلاثة: ذكر الله على كل حال، وانصافك من نفسك، ومواساة الأخ في المال.
وأخرج عبد الرزاق عن يحيى بن أبي كثير رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تتمنوا لقاء العدو فإنكم لا تدرون لعلكم ستبلون بهم وسلوا الله العافية، فإذا جاءوكم يبرقون ويرجفون ويصيحون بالأرض، الأرض جلوسًا ثم قولوا: اللهم ربنا وربهم نواصينا ونواصيهم بيدك وإنما تقتلهم أنت، فإذا دنوا منكم فثوروا إليهم واعلموا أن الجنة تحت البارقة».
وأخرج ابن أبي شيبة عن عطاء رضي الله عنه قال: وجب الانصات والذكر عند الرجف، ثم تلا {واذكروا الله كثيرًا}.
وأخرج ابن عساكر عن عطاء بن أبي مسلم رضي الله عنه قال: لما ودع رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن رواحة رضي الله عنه قال ابن رواحة: يا رسول الله مرني بشيء أحفظه عنك؟ قال: «إنك قادم غدًا بلدًا السجود به قليل فأكثر السجود. قال: زدني. قال: اذكر الله فإنه عون لك على ما تطلب. قال: زدني. قال: يا ابن رواحة فلا تعجزن إن أسأت عشرًا أن تحسن واحدة. فقال ابن رواحة رضي الله عنه: لا أسألك عن شيء بعدها».
وأخرج الحاكم وصححه عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ثِنيتان لا تردان، الدعاء عند النداء وعند البأس حين يلحم بعضهم بعضًا».
وأخرج الحاكم وصححه عن أبي موسى رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكره الصوت عند القتال.
وأخرج ابن أبي شيبة والحاكم عن قيس بن عباد رضي الله عنه قال: كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يكرهون الصوت عند القتال.
وأخرج ابن أبي شيبة عن قيس بن عباد رضي الله عنه قال: كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم يستحبون خفض الصوت عند ثلاث. عند القتال، وعند القرآن، وعند الجنائز.
وأخرج ابن أبي شيبة عن الحسن رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يكره رفع الصوت عند ثلاث. عند الجنازة، وإذا التقى الزحفان، وعند قراءة القرآن. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45)}
أراد إذا لقيتم فئةً من المشركين فاثبتوا. والثباتُ إنما يكون بقوة القلب وشدة اليقين، ولا يكون ذلك إلا لنفاذ البصيرة، والتحقق بالله، وشهود الحادثات كلها مِنْهُ، فعند ذلك يستسلم الله، ويرضى بحكمه، ويتوقع منه حُسْنَ الإعانة، ولهذا أحالَهم على الذكر فقال: {وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيرًا}.
ويقال إنَّ جميعَ الخيراتِ في ثبات القلب، وبه تَبِينُ أقدارُ الرجالِ، فإذا وَرَدَ على الإنسان خاطرٌ يزعجه أو هاجِسٌ في نفسه يهيجه فَمَنْ كان صاحبَ بصيرةٍ تَوَقفَ ريثما تَتَبَيَّنُ له حقيقةُ الوارد، فيثبُتُ لكونه رابطَ الجأش، ساكنَ القلب، صافيَ اللُّب.. وهذا نعت الأكابر. اهـ.